بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 27 ديسمبر 2017

أرسطو... الفيلسوف المعلم

أرسطو وأفلاطون
ولد أرسطو في مقدونيا في عام 384 قبل الميلاد، وتوفي عام 322. كان والده طبيب الملك. كبر أرسطو ليكون من أكثر الفلاسفة تأثيراً في التاريخ، وأطلق عليه لقب "المعلم" أو "الفيلسوف".  ومن أكبر المهام التي وليّ أمرها كانت الإشراف على تعليم الإسكندر المقدوني الذي غزا العالم المعروف في تلك الأيام. توجه أرسطو بعد ذلك إلى أثينا حيث عمل مع أفلاطون وتعلم منه لفترة ثم استقل بنفسه وأسس مدرسة أطلق عليها "ليسيوم"، وهي كلمة لا تزال موجودة في الفرنسية للإشارة إلى المدرسة الثانوية. كان يحب المشي أثناء مناقشته للأفكار، وسمي أتباعه "المشاؤون". وما كتبه ليس إلا مذكرات عن محاضراته. كان أرسطو معجباً بكيفية عمل الأشياء، مثل كيف للدجاجة أن تكبر انطلاقاً من البيضة، وكيف تتكاثر الغضروفيات، وكيف للنبتة أن تنمو جيداً في مكان ما دون آخر. وأكثر من ذلك، ما الذي يجعل حياة الإنسان والمجتمع يسيران على نحو حسن؟ أي أن الفلسفة بالنسبة لأرسطو كانت تخص الحكمة العملية. وفيما يلي أربع أسئلة كانت موضع اهتمامه الخاص.

1.      ما الذي يجعل الناس سعداء؟ ففي الأخلاق النيكوماخوسية (نسبة إلى ابنه نيكوماخوس الذي حرر الرسائل الذي أرسلها والده إليه) أعطى أرسطو لنفسه مهمة تحديد العوامل التي تقود الناس إلى الحياة السعيدة أو لا. وافترض أن الناس الجيدين والناجحين يمتلكون "فضائل" مميزة، لذا فهو يقترح بأن أمورنا ستتحسن بتحديد هذه الفضائل التي يمكننا أن نرعاها بأنفسنا. وركز أرسطو على إحدى عشرة فضيلة هي: الشجاعة، الاعتدال، الأريحية، المروءة، الترفع، الفخر، الصبر، الثقة، الفطنة، الصداقة، التواضع. ولاحظ أرسطو أيضاً أن كل فضيلة هي الوسط بين عيبين. ووضع القاعدة الذهبية: خير الأمور أوسطها.  ويسوق أرسطو مثال "فضائل المحادثة". وهنا يبحث أرسطو عن الطرق التي يجري فيها الناس محادثة حسنة أو سيئة. (فمعرفة كيفية إجراء محادثة جيدة  بحسبه هي أحد جوانب الحياة الجيدة) فبعض الناس يخطئون بسبب سوء مزاجهم، وهم مملون، وبعضهم عديمي الفائدة في أي نوع من التفاعل الاجتماعي، لأنهم لا يقدمون أية مساهمة ويعادون كل شيء. ولكن البعض يفرطون بطيب المزاج، مثل المهرج الذي لا يستطيع مقاومة النكتة، ولا يوفر لا نفسه ولا الآخرين طالما أنه سيثير الضحك والقول بأشياء لا يمكن لأي شخص من أصحاب الذوق أن يقولها. لذا فإن الشخص "الفاضل" بحسب القاعدة الذهبية سيكون الشخص اللماح والحريص على عدم إزعاج الآخرين فيما يقول. ويضع أرسطو جدولاً يظهر فيه كل فضيلة من الفضائل التي أشار إليها وعلى يمينها ويسارها العيبين المقابلين. مثل الكرم الذي هو بين التبذير والبخل. والشجاعة التي هي بين التهور والجبن. وقال بأنه لا يمكننا أن نغير سلوكنا في هذه المجالات ببساطة. ولكن التغيير ممكن. و"الطيبة الأخلاقية" بحسب أرسطو هي نتيجة "للعادة"، وهي تتطلب الوقت والممارسة والتشجيع. لذا فإن أرسطو يظن بأنه يجب فهم  الناس الذين تعوزهم الفضيلة على أنهم عاثرو حظ بدلاً من أنهم آثمون. وما يحتاجون هو ليس التخلص منهم أو حجزهم في سجن وإنما تعليمهم وتوجيههم.
2.      لما الفنّ؟ الفن الذي كان سائداً في ذلك الوقت هو التراجيديا. فقد كان الأثينيون يشاهدون مسرحيات  مثيرة في احتفالات جماعية على مسارح في الهواء الطلق لأكبر مسرحيي اليونان مثل سوفكليس وأسخيلوس وغيرهم. ولكن لما التراجيديا؟ ولماذا يأتي الجميع لمشاهدة أشياء بشعة تحدث للشخصية الرئيسية؟ مثل مسرحية أوديب (سوفكليس) الذي يقتل والده بالخطأ ويتزوج من أمه دون علمه بذلك، ثم يكتشف أنه قام بهذه الأشياء البغيضة فينتقم من نفسه بفقء عينيه نتيجة التأنيب والخيبة. يجيب أرسطو على ذلك بأنه التطهير، بمعنى محاولة التخلص من المكنونات السيئة، وخاصة التشويشات الشعورية المرافقة للخوف. فنحن هنا إزاء مشاكل طبيعية: نحن قساة القلوب: ولا نظهر الشفقة عندما يجب أن نفعل ذلك. ونحن مقادون إما بالخوف الشديد أو بعدم الاكتراث بما فيه الكفاية، لذا فإن التراجيديا تذكرنا بأن الأشياء الفظيعة يمكن أن تصيب الناس العاديين مثلنا، وأن لحادث بسيط أن يقود إلى حياة غير مألوفة. لذا فإن علينا أن نكون أكثر تعاطفاً أو إشفاقاً على هؤلاء الذين تكون تصرفاتهم خاطئة على نحو كارثي. ونحن نحتاج أن نعيد جماعياً تعلم تلك الحقائق الأساسية على أساس منتظم. لذا فإن مهمة الفن بحسب أرسطو هي تقديم حقائق عميقة عن جوهر الحياة في أذهاننا.
3.      من هم الأصدقاء؟ يحدد أرسطو ثلاثة أنواع مختلفة من الصداقات. صداقة تحدث عندما يبحث كل شخص عن التسلية ويكون مبتغى كل منهم المتعة الخاصة باللحظة الراهنة التي يقدمها الآخرون. فنحن هنا بحاجة للآخرين لتمضية وقت بهيج وإلى رفاق ممتعين. وهناك الصداقة بين المعارف من أصحاب المصالح الذين يجدون متعة في رفقة بعضهم البعض طالما أن لديهم آمال بالاستفادة من تلك الصداقة. ثم الصداقة الحقيقية، ليس فقط مع شخص يشبهك، ولكنها مع شخص مختلف عنك ويهتم بك بقدر ما تهتم أنت نفسك بنفسك. فأحزان الصديق الحقيقي هي أحزانك وكذلك أراحه هي أفراحك. إنها تجعلك أكثر هشاشة لجزعك من أن يصيبه مكروه. ولكنها تزيد من القوة لأنها ترفعك من عالم أفكارك ومخاوفك الخاص والمحدود وتجعلك تتسع لحياة شخص آخر، ومعاً ستكونان أقوى وأذكى وأكثر تسامحاً وأكثر إنصافاً. فأنت تشاطر الفضائل وتبتعد عن ثغراتها. تعلمنا الصداقة ما يجب علينا أن نكون. وهي أجمل ما في الحياة تماماً.
4.      كيف يمكن للأفكار أن تنتقل في عالم منشغل؟ صُدم أرسطو مثل كثيرين غيره من الناس بحقيقة أن أفضل حجة لا تنهي دائماً الجدل أو المعركة وأراد أن يعرف لما يحدث هذا وما بإمكاننا أن نفعل بخصوصه. توفرت له العديد من فرص المراقبة والرصد في أثينا التي كانت تتخذ فيها الكثير من القرارات في الاجتماعات العامة حيث كان على الخطباء محاولة إقناع الرأي العام. حدد أرسطو العوامل التي يتأثر فيها الأفراد والمستمعون التي لا تلتزم تماماً بالمنطق أو وقائع الحالة التي تناقش. وأنه حتى الأشخاص الجديين مثل أفلاطون لا يدركوها. لذا فهم يتحاشون الساحة العامة والنقاش الشعبي. كان أرسطو أكثر طموحاً. واخترع ما نسميه حتى اليوم بالبلاغة أو البيان، أي الفن الذي بموجبه نجعل الناس يتفقون معنا.  كان يريد أناساً مفكرين وجديين وحسني النوايا كي يتعلموا كيف يكونوا مقنعين وذلك للوصول إلى هؤلاء الذين لا يتفقون معهم حالياً. وذكر بعض النقاط الهامة الصالحة لكل زمان مثل: عليك أن تعترف وتقر وتتبصر بمخاوف الناس. وعليك أن ترى الجانب العاطفي لهذه المسائل، بحيث لا تكون عزة أي منهم موضع شك، أو أن يشعروا بالضيق أو الحرج، وعليك أن تجعل ذلك في جو مرح، ذلك أن فترة الانتباه قصيرة وعليك أن تقدم الإيضاحات والأمثلة لجعل فكرتك حيّة.

وبذلك فإن أرسطو هو فيلسوف عملي. فقد بدأ حياته المهنية بالاهتمام بكل ما هو حيّ ويمكن القول بأنه الأب الحقيقي لعلوم الطبيعة (الفيزيقا كما كانت تسمى). ولم يكن اهتمامه بالعلوم الفكرية (التي لا تستند إلى التجارب وإنما إلى النظريات البحتة) إلا بعد فراغه من علوم الطبيعة ومن ثم الانتقال إلى الميتافيزيقا (أي ما بعد الطبيعة بالمعنى الزمني). وهذه العلوم بحسبه هي أفضل ما يمكن للمر أن يقوم به في أوقات فراغه. فرع ثالث من العلوم هو العلوم المنتجة، مثل تلك المتعلقة بالأخلاق والسياسة والتقانة. وفي غير هذا فهو صاحب المنطق الاستقرائي (كل إنسان فان، سقراط إنسان، إذن سقراط فان)  وطرائق البرهنة، وهذه تفيض عن سعة هذه الورقة.

بقي أن نقول إن أفكاره لم تكن كلها صحيحة، فهو من أكثر المدافعين عن ثبات الأرض وعدم حركتها، وهو أيضاً من أكثر المدافعين عن مركزية الأرض، وغيرها من الأفكار التي اعتنقتها الكنيسة واعتبرت الخروج عنها هرطقة راح ضحيتها من بين من راح الإيطالي جيوردانو. وغير ذلك من الأفكار التي يمكن أن تثير الضحك اليوم، ولكن عذره أنه لم يكن يتوفر على المعلومات التي بدأنا بحيازتها منذ القرن الخامس عشر.

وقبل الانتهاء من هذه الورقة نشير إلى أن أرسطو يعتبر ن أهم الفلاسفة في الغرب وأن من كان سبب تعرف الغرب إليه هم أهل الأندلس ممثلين بابن رشد الذي ناقش أفكار أرسطو وفندها وشرحها، وقبلهم العباسيون الذين قاموا برعاية ترجمته إلى العربية مما ساعد على حفظ كتاباته وأفكاره.

جزء كبير مما ورد في هذه الورقة يمكن الاستماع إليه بالإنكليزية على هذا الرابط.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق