بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 12 ديسمبر 2017

أفلاطون ... فيلسوف الكمال

كانت أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد مكاناً يعجُ بالحركة ويضجُ بالحياة... فيها المسرحُ والمعبدُ والسوقُ ومجلسُ الشعبِ بأبنيتها الفخمةِ التي لا تزالُ بقاياها تذكّر بذاك الزمان. وكان في أثينا في ذلك القرنِ مجموعةٌ من الفلاسفة والمفكرين والأدباءْ... من بينهم أفلاطون الذي يُنظر إليه حتى اليوم باعتباره من أهم الفلاسفة، هو ابن لعائلةٍ غنيةٍ نذرَ حياتَه لمساعدة الناسِ على بلوغ الكمالِ. وهو تلميذُ سقراطَ وصديقه، إلأ أن سقراط لم يكتب شيئاً، على عكس أفلاطون الذي كتب أكثر من ثلاثين كتاباً على شكل حواراتٍ، على طريقة سقراط في طرح وإيصال الأفكارِ ومناقشتها وجعلْ محاورِه يصلُ إلى النتيجة المنشودة بالتفكير وليس بالتلقين. من أهم هذه الكتب "الجمهورية"، والقانون، والمحاورة، وغيرها.

 تمحورت أفكار أفلاطون حول أربع أفكار رئيسية لتحقيق هدفه الرئيس في الكمال:

الأولى: فكّرْ أكثر: فنحن نادراً ما نمنح أنفسَنا الوقت الكافي للتفكير منطقياً بخصوص حياتنا وكيف نعيشها، وغالباً ما نقومُ بمحكاة ما يمكن تسميته "بالآراء العامة"، وبيّن في كتبه أن هذه الآراءَ العامةَ مليئةٌ بالأخطاء والأفكارِ المسبقة والأوهام واتباعِ العاطفةِ والسعي وراءَ الثروةِ باعتبارها أساسَ الحياة الجيدة. ولكن المشكلة هي أن الآراء العامة تضعُنا أمام قيم وعلاقات وانشغالات خاطئة . وجواب أفلاطون على ذلك هو: "إعرفْ نفسَك"، بمعنى القيامُ بنوع من المعالجة الخاصة وذلك عبر الفلسفة: اجعل أفكاركَ موضوعاً للتمحيص والتدقيق بدلاً من التصرف المتسرع. فإن عززت معرفتك بنفسك فلن تنجرَّ بالمشاعرِ... وهذا التمحيصُ والتدقيقُ يمكن أن تقوم به بنفسك أو تناقشه مع الآخرين لتوضيح أفكارك.

الفكرة الثانية: دع مَن تحبَ يُغيّرك: والحب بحسب تعريف أفلاطون هو الإعجاب، وليس شيئاً آخر. بمعنى أن الشخص الذي عليك أن تعاشره هو شخصٌ ذو خصالٍ جيدةٍ تحبها، مثل أن يكون كريماً أو شجاعاً أو منظماً أو مخلصاً. وباقترابك من هؤلاء الناس يمكنك أن تشابههم إلى حد ما. أي أن الناس الذين تحبهم سيساعدونك على تنمية إمكاناتك. وبالنسبة لأفلاطون فإن العلاقة الجيدة بين شخصين، زوجين مثلاً،  يجب ألا يحبّا بعضهما كما هما، وإنما عليهما أن يعملا على الارتقاء بنفسيهما بالعمل معاً على ذلك، وأن يتحملا اللحظات العاصفة التي سيمران بها لا محالة وعلى كل منهما أن يزيّن للآخر أن يصبح بأفضل مما هو عليه الآن.

ثالثاً:  فهمُ رسالةِ الجمال: فكل شخصٍ يحبُ الأشياء الجميلة،... وأفلاطون يسأل: لماذا نحبها؟ وبالنسبة له فإن هذه الأشياء الجميلة تهمس لنا بحقائق هامة عن الحياة الحسنة. ونحن نجدُ الأشياءَ جميلةً عندما نشعر بلا وعي بأن فيها الصفاتَ التي نحتاجُ ولكننا نفتقدها في حياتنا، مثلُ الرقةِ والتاغمِ والتوازنِ والطمأنينةِ والقوةِ. لذا فإن للأشياء الجميلة فعلاً وظيفةً حقيقيةً هامةً، فهي تساعدنا على تربية أرواحِنا... كما أن البشاعة هي مسألة هامة أيضاً. فهي تحرّض خصائص خطيرة ومؤذية وتزيد في صعوبة أن نكون هادئين أو لطفاء أو عاقلين. لذا يرى أفلاطون أن في الفن علاجاً. وأن على الشعراء والرسامين والكتاب مساعدة الآخرين في أن يعيشوا حياة طيبة.

رابعاً: إصلاحُ المجتمعِ: أي كيف على الحكومة والمجتمع أن يكونا. وهو أول مفكر طوبائي (مثالي) معروف في تاريخ الفكر. وهو يبحث في كيفية إنتاج المجتمع لإناسٍ كاملين. وهو يحددُ في كتابه "الجمهورية"، التغيرات اللازمة لبلوغ ذلك. لذا كان يطالب بتغيير شخصيات المجتمع الثرية أو القوية عضلياً أو الماهرة في الرياضة التي كانت تثير إعجاب الناس وتؤثر في المجتمع وحركته... ووضع محل هؤلاء حكماءَ يقومون بالسهر على المجتمع ويمثلون نموذجاً يحتذى. وهؤلاء هم ممن تميزوا بالخدمة العامة والتواضع والعادات الحميدة وعدم انجذابهم للشهرة، ولهم تجربتهم الواسعة والعميقة. لذا فهم من أكثر الناس قدراً وإثارة لإعجاب المجتمع. كان أفلاطون يريد إنهاء الديموقراطية في أثينا، ليس لإقامة دكتاتورية محلها، لا، ولكن لأنه لاحظ كيف أن قلة من الناس تفكر قبل أن تصوّت، لذا كان الحكامُ المنتخبون أدنى من المطلوب. لقد كان يريد منع الناس من التصويت قبل التفكير مليّاً، أي كان يريدهم أن يكونوا فلاسفة إلى حد ما، وإلا فإن الحكومةَ ستكون حكومة غوغاء. لذا قام أفلاطون ببناء مدرسة في أثينا سميت "الأكاديمية" التي استمرت لنحو ثلاث مائة عام، حيث كان الطلاب يتلقون مختلفَ العلوم مثل الكتابة والرياضيات وغيرها، وكذلك كيف يكونوا طيبين ودمثين وهو الأهم. كان هدفه النهائي هو أن يكون الحكام فلاسفة أو الفلاسفة حكاماً... وهؤلاء فقط من لهم أن يضمنوا سلامة الحكم وبالتالي سلام المجتمع.

لأفلاطون نظريات تثير الإعجاب فيما يسمى "نظرية المعرفة"، وهو يقول بأن ما نعرفه عن الحقيقة ليس إلا ظلها ولا يمكننا معرفة الحقيقة الحقيقية أبداً، وهو شعور يتزايد لدى علماء اليوم مع تزايد معارفهم واصطدامهم بالكثير من العوائق التي تفتح أبواباً للمجهول أكثر مما تغلق!

معظم مادة هذه الورقة مأخوذة من الرابط
https://www.youtube.com/watch?v=VDiyQub6vpw

هناك تعليقان (2):

  1. العلم يقربنا من الحقيقة أكثر فأكثر، وإذا لم يكن عالم التكنولوجيا الحالي حقيقة فما هي الحقيقة؟ صحيح أن نظريات آينشتاين أدق من نظريات نيوتن، لكن نظريات نيوتن هي التي تحكم حياتنا. أما الحقيقة الحقيقية التي يبحث عنها الفلاسفة فهي مجرد فكرة للإرباك وحسب.
    أجل، كلمة حل العلم مشكلة ظهرت مشكلة جديدة بحاجة إلى حل،ل لكن ذلك ليس إلا حلقة من سلسلة مسيرة اكتشاف وترسيخ الحقيقة.

    ردحذف
    الردود
    1. المشكلة الكبرى في المعرفة "الإنسانية" هي أنها قائمة على الحواس والتفكير العقلاني... لكن من يستطيع أن يضمن أن هذا كاف لمعرفة مجريات الكون!.... الحواس قاصرة وضوحاً، والتفكير "العقلاني" هو تفكيرنا، فهو ذاتي بالضرورة ولا يمكنه أن يكون موضوعياً بالمطلق، وما تقوله عن نيوتن وآينشتين وما بعد آينشتين يؤكد ذلك... أعتقد أن الإنسان سيعيش دائماً مع سراب الحقيقة... سأحاول في مقال قادم تلخيص عدد كامل من مجلة فكرية فرنسية عن موضوع "اللايقين" uncertainty.

      حذف