بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 28 أبريل 2017

أذينة والزباء ... الفعل والصيت

أذينة
بعد انقلاب أردشير وتأسيسه الدولة الساسانية، وتجدد الحروب بين الفرس والرومان، قامت الدويلات المستعمرة أمثال تدمر بالبحث عن حماية نفسها عبر صفقات سياسية. وفي تلك الفترة ظهرت أسرة أذينة، من أصول نبطية، كأسرة حاكمة لتدمر بلغت أوجها مع أذينة الذي تولى الحكم بعد موت أخيه خيران. كان أذينة، المولود عام 220م، فارساً شجاعاً ألِفَ حياة البداوة محباً لصيد الذئاب والفهود والأسود. كانت له قيادة الجيش والقوافل ورئاسة القبائل قبل توليه الحكم، وكانت له ميزات حسن الإدارة والفطنة إضافة إلى الشجاعة مما رفع في قيمته لدى الرومان. وقد حمل رتبة قنصل في أيام فاليريانوس بحسب كتابات تعود لعام 258م.

كان الرومان قد قتلوا أباه، فعمد إلى التقرب إلى الفرس، فأرسل إلى سابور الهدايا، لكن هذا الأخير رفضها وأهان رسول أذينة، فعمد هذا الأخير إلى الانتقام فجهز حملة لملاقاة الفرس ترافقت مع حملة فاليريانوس عام 259م فالتحم بفلولهم المهزومة من جيش الرومان وحقق فوزاً عليهم فأنعم عليه قيصر روما برتبة قائد عام لعساكر المشرق ومارس ضغطاً كبيراً على الفرس في منطقة دورا (الصالحية) مما دفعهم للتخلي عنها وعودة الحامية الرومانية إليها، كما فتح نصيبين وحران وسار إلى طيفسون وحاصر المدائن حيث كان سابور ونصب المجانيق، ولكن تغيراً سياسياً حصل في روما بتغير القيصر مما جعل أذينة يعود مسرعاً إلى عاصمته تدمر لمواجهة الطارئ السياسي. حاصر حمص وفتحها، التي أصبحت مقر قيادته العسكرية لوهلة، وفيها قتله عام 267م المدعو معنى، ابن أخيه، طمعاً في استرداد خلافة أبيه خيران فيما يقال. ومعنى هذا لم يبق على قيد الحياة بعد قتله أذينة لأكثر من أسبوع إذ لم يرق لأهل حمص ما جرى. البعض يقول بأن دافع قتل أذينة ربما كان رغبته باسترداد الحكم، أو أن الروم هم من أرادوا التخلص من أذينة بعد أن قويت شوكته، أم أن الزباء (زنوبيا) أرادت بلوغ الكرسي فاغتالته عبر ابن أخيه الضعيف، أم أنه الحزب الوطني التدمري الذي كان يكره الرومان واليونانيين؟ أسئلة لا أحد يعرف الإجابة عليها. وكل ما نعرفه هو أن أذينة كان إدارياً وسياسياً ناجحاً فضلاً عن أنه كان قائداً عسكرياً فذا، أحاط نفسه بمجموعة من الكبار أمثال قائده العسكري زبدا وكذلك وورود الفذ الذي كان ينوب عن أذينة أيما إنابة.
إمبراطورية تدمر بين عامي 260م و 270م

انتقل الحكم إلى وهب اللات ابن أذينة، كان صغير السن فتولت أمه الزباء الحكم وكان لها من العمر 27 عاماً. واسمها في الكتابات التدمرية "بت زباي"، يُقال إن أباها من تدمر نفسها وأمها مصرية، وكانت تتقن اليونانية والمصرية وتحسن اللاتينية، وتهتم بشؤون المملكة، حرة التفكير متساهلة مع أصحاب العقائد والآراء، مثل زوجها أذينة، خاصة وأن تدمر كانت مدينة لكل الغرباء. كانت تدير مملكتها بقدرة فائقة مما أخاف الرومان فحرّض شيوخ روما قيصرها غالينوس على التخلص منها قبل استفحال أمرها. وجرت معركة بين جيشها وجيش الروم بقيادة هرقليانوس وانتصرت عليه وقتلته. واعتمدت إثر ذلك سياسة التودد إلى القبائل العربية وغيرها القريبة منها، وأخذت جانب الحذر من الفرس، وحاولت التحالف مع الملكة فكتوريا ملكة الغال التي كانت على خلاف مع روما.
الزباء تلقي نظرة الوداع على تدمر (هربرت شمالتز)

وجهت نظرها نحو مصر وسيطرت عليها أثناء انشغال الرومان بمحاربة الألمان الذين هاجموا الإمبراطورية عام 268 م. هذا كله إضافة إلى أن مقتل هرقليانوس زاد في خوف الروم منها. وبالرغم من اتفاقية سلام بينها وبين روما، إلا أن الرومان كان يخشون أطماعها، وحتى لا تتفاجأ في حبهم ضدها، بادرت إلى قتالهم، فلقيت جيشهم عند إنطاكية حيث هُزم جيشها، وتعقبها الجيش الروماني بقيادة أورليانوس حتى حمص التي استولى عليها بعد معركة حامية، وثم تتبعها حتى تدمر حيث قبلت بالأسر دون تدمير مدينتها عام 272م تحت ضغ أهل تدمر كما قيل. أخذت أسيرة إلى روما وانقطعت أخبارها منذ العام 275م ولم يكن لها من العمر إلا 35 عاماً. وعادت تدمر ولاية رومانية، وأفلت تجارتها مع القرن الخامس... التاريخ يذكر الزباء بأكثر مما يذكر أذينة، مع أن الإنصاف يملي بأنه هو من بنى وهي من هدمت، على نحو ما، لأخطاء سياسية قاتلة.

تقول الروايات العربية برواية أخرى عن مقتل الزباء الذي كان على يد عمرو بن عدي، عندما احتال عليها بإدخاله حامية من جنوده في جوالق حملتها الجمال، فلما جنّ الليل خرجوا من جوالقهم فاضطرت الزباء للهرب فلقيها عمرو فلما رأته مصت خاتمها المسموم قائلة "بيدي لا بيدك يا عمرو"... وهذه رواية لا سند لها، وما أكثر الروايات في التاريخ العربي التي لا سند لها.

هناك تعليق واحد:

  1. أرجوا التفريق بين الزباء وبين زنوبيا.

    ملكةُ تدمر «زنوبيا»، ليست نفسها «الزباءَ بنت السميدع».
    جيوش «زنوبيا» توسعت في سورية كلها ومصر والأناضول، في حين أن الزباء لم تحارب وظلت في حدود تحركات العشائر شمال الجزيرة العربية وجنوب سورية والعراق. زنوبيا: خصمها الأساسي الإمبراطور الروماني أورليان، والزباء: خصمها جذيمة الأبرش ومن بعده عمرو بن عدي. زنوبيا: أُسرت وهي في طريقها لطلب نجدة الفرس خلال حصار تدمر، والزباء: انتحرت بالسم.

    وأود التنويه أيضا إلى دراسة قام بها سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي التي اهتم بها مشكورا، وعنوانها زنوبيا ملكة تدمر نشرت بتاريخ 14 أيار/مايو 2013 والتي زودتنا بالمزيد من المعلومات عن هذا الالتباس الحاصل. الدراسة كاملة منشورة على الموقع sheikhdrsultan.ae


    بالمختصر المفيد: واقتباسا من كلام محمد محمود البشتاوي لحفظ الحقوق:

    تنسج «الحكاية الشعبية» خيطها الأول من مسلّة التاريخ، وثمة صلة وثيقة لا يمكن التنكر لها، بل و «يختلط الحابلُ بالنابل» أحياناً، فيصبحُ من الصعب الفصلُ بينهما، لتداخل العناصر بين الأصل والصورة المنبثقة عنه، والتي أخذت في التمحور والتطور نحو شكل آخر.

    وفي زمنٍ كانت فيه الرواية الشفهية المرتكَزَ الأساس في عملية سرد الأحداث، تصبح «الحكاية الشعبية» المليئة بـ «المتعة» شكلاً متطوراً لتاريخٍ مثقلٍ بالأحداث الجامدة، فيعاد بذلك إنتاج «حرب البسوس»، و «سيرة الظاهر بيبرس»، وحتى «نمر بن عدوان»، وفي أحد العناوين تصبح ملكةُ تدمر «زنوبيا»، «الزباءَ بنت السميدع» التي تحملُ صفات الثأر والانتقام العشائري.

    ردحذف